كم مرة على الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل؟

  هناك إشكالات عديدة تتعلق بطلب إسرائيل الجديد الذي يلح على الفلسطينيين أن يعترفوا بها رسميا ك”دولة يهودية”، ومع أن جل الكتاب و المحللين السياسيين _ بما فيهم كاتب هذه السطور_ قد تمكنوا من دراسة هذه المشاكل بدقة ودحضها، إلا أن أهم هذه الإشكالات لم ينل حتى الآن ما يكفي من البحث والاهتمام؛ نعني بذلك أن الهدف من هذا المطلب الجديد والتأثير المرجو من ورائه هو إلغاء وتجاهل أكبر تنازل قدمه الفلسطينيون؛ ألا وهو اعترافهم بدولة إسرائيل عام 1993.

يوجد إجماع دولي على مبدأ “حل الدولتين” لا يكاد يشذ عنه أحد؛ بما في ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيكدور ليبرمان اللذان يصرحان الآن بتأييد هذا الطرح، بعد ما عارضاه لفترة طويلة.

غير أن هناك خللا خطيرا ما يزال يصاحب جهود السلام التي تم بذلها على مدى ربع قرن من الزمن من أجل إنهاء الصراع والتوصل إلى حل الدولتين. فأحد الأطراف، وهو الجانب الفلسطيني ممثلا في منظمة التحرير الفلسطينية، اعترف بإسرائيل بشكل واضح وصريح؛ وبغض النظر عن باقي التفاصيل فقد ظل الجانب الفلسطيني ملتزما بالشرط الضروري لمبدأ حل الدولتين، أي الاعتراف بإسرائيل.

من جانبه، لم يعترف الطرف الإسرائيلي أبدا بالدولة الفلسطينية، أو حتى _ بشكل رسمي أو مكتوب أو قانوني_ بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.

ينطوي طلب “يهودية الدولة” على عدد كبير من الإشكالات، وخصوصا الصيغة التي قدمها نتنياهو على شكل “الدولة القومية للشعب اليهودي”.

هذه الصيغة بالذات مليئة بالإشكالات وتوحي بأن هناك إثنية دينية غير محددة موجودة في أنحاء العالم، تمتلك بأكملها دعوى عابرة للتاريخ بامتلاك هذه الأرض، وليس فقط الأغلبية اليهودية الموجودة حاليا في إسرائيل.

هذه الصيغة أيضا تستدعي إلى الذهن صهيونية ما قبل الدولة، حيث يتم تعريف إسرائيل وكأن الدولة لم تنشأ بعد، وكأن أجيالا من اليهود و العرب الإسرائيليين لم يولدوا على هذه الأرض.

وتدفع هذه الصياغة كذلك للتساؤل عن وضعية المواطنين الإسرائيليين من أصل فلسطيني الذين يعانون مسبقا من تمييز واضح يطال مختلف القطاعات، لمجرد أنهم ليسوا يهودا، وهذا أحد الأسباب التي جعلت منظمة التحرير الفلسطينية تعتبر هذا المطلب مشْكِلا، ذلك أنهم لا يريدون أن يوافقوا ضمنيا على تأييد القيود التي يعاني منها الفلسطينيون الموجودون في إسرائيل، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل.

من ناحية أخرى، لا يبدو أن إسرائيل نفسها قادرة على تحديد معنى “الدولة اليهودية”، وقد باءت بالفشل كل محاولات الكنيست الأخير لتمرير قانون يزيل الغموض عن هذا المصطلح.

صحيح أنه يوجد إجماع من طرف اليهود الإسرائيليين على أن إسرائيل هي بمعني ما دولة “يهودية”، لكن لا يوجد بينهم أي إجماع مهما كانت درجته حول ما يترتب على ذلك، والواقع أن إسرائيل تطالب الفلسطينيين بالموافقة على شيء لا تستطيع هي نفسها تحديد ماهيته بشكل دقيق.

لقد تم تقديم طلب “يهودية الدولة” أول مرة عام 2007 في مؤتمر أنابوليس، ولم يرد أي ذكر لهذا المصطلح خلال المفاوضات الإسرائيلية السابقة مع الفلسطينيين، ناهيك عن مفاوضاتهم مع المصريين أو الأردنيين. وقوبل هذا الطلب بالرفض من  قبل الوفدين الفلسطيني والأمريكي، باعتباره محاولة للالتفات على الوضع النهائي لقضية اللاجئين الفلسطينيين.

وبالرغم من أن هذا الطلب تم رفضه حينها، إلا أنه سرعان ما برز مجددا مع إعادة انتخاب نتنياهو عام 2009، حيث جعل هذا الأخير عبارة “يهودية الدولة” المحور الأساسي في علاقاته مع الفلسطينيين.

والآن لم تعد هذه القضية بالنسبة لنتنياهو أمرا مهما فحسب، بل إنه أحيانا يعتبرها هي القضية الأساسية الوحيدة (مع أنه يصعب شرح كيف ظلت هذه “القضية الأساسية الوحيدة” غائبة عن الإسرائيليين في علاقاتهم مع الفلسطينيين حتى عام 2007″.)

ويميل عدد كبير من الكتاب والمحللين السياسيين إلى أن هناك سببين رئيسين وراء تركيز نتنياهو على هذه القضية: أولهما، أنه يريد أن يترك بصمته الخاصة على عملية تم تحديدها قبل مجيئه إلى السلطة، وثانيهما هو الاستمرار في محاولة نزع فتيل ملف اللاجئين الفلسطينيين، خصوصا كبديل للتنازلات الإسرائيلية حول القدس.

هناك تفسير ثالث، وهو الأكثر تداولا، فحواه أن الهدف من هذا الإلحاح العنيد على هذا الطلب يعكس محاولة لتقويض محادثات السلام، حيث يسعى الجانب الإسرائيلي إلى إيجاد مطلب لا يمكن للفلسطينيين تلبيته في نفس الوقت الذي يتفق معظم الإسرائيليين على أهميته.

وهنا يبدو مطلب “يهودية الدولة” فرصة لا تقدر بثمن. ومن الوارد جدا أن هذا الأمر جزء _أو كان على الأقل في مرحلة ما جزءا_ من حسابات المفاوضين الإسرائيليين.

لقد انتصر نتنياهو على السواد الأعظم من الإسرائيليين وأصدقائهم حول هذه القضية الجديدة من قضايا الوضع النهائي، من خلال اللعب على مخاوف الإسرائيليين الذين يخشون من أن أي اتفاق قد لا ينهي الصراع بشكل فعلي، على الرغم من أن الجميع متفقون على أن معاهدة السلام سوف تنهي الصراع وتضح حدا لكل المطالبات.

على أن ما لا يدركه الكثيرون هو أن أخطر ما يترتب على مطلب “يهودية الدولة” هو تجاهله  للاعتراف الفلسطيني بإسرائيل عام 1993 وعكسه للقضية؛ فلم يدع ذلك الاتفاق مجالا للحديث عن رفض الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل وكأنه هو أصل المشكلة، بل أصبح كل من يتبنى هذا الرأي محل تندر.

أما اليوم، وبقدرة قادر، تغير الوضع، وأصبح بالإمكان الحديث مرة أخرى عن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل باعتباره هو لب المشكلة، لأن ما حدث عام 1993 لم يكن اعترافا بإسرائيل كـ”دولة يهودية”.

والغريب أن الجانب الإسرائيلي  لم يطلب من الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية إلا مع حلول العام 2007، لا أحد يهتم بذلك الآن.

كما لا يهتم أحد بعديد العقبات والمشاكل الجمة التي تصاحب هذا المطلب، فضلا عن الغموض الذي يحيط بالمصطلح نفسه.

بل إن هناك لازمة على شكل تعويذة أصبحت تتكرر في خطابات معظم الدوائر المناصرة لإسرائيل حول العالم وهي أن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل عام 1993 لم يعد مهما في الوقت الراهن، وأن الشكوك ستظل تحيط بنوايا الفلسطينيين تجاه إنهاء الصراع و تحقيق السلام ما لم يعترفوا بإسرائيل كـ”دولة يهودية.”

وبالتالي فإن المطلب الجديد سيحل هذه المعادلة المعقدة: هناك طرف حافظ على تعهداته الجوهرية في إطار حل الدولتين واعترف بدولة مستقلة للطرف الآخر، بينما لم يحافظ هذا الطرف الآخر على تعهداته.

فالزج بهذا المطلب إذن من شأنه أن يعيد عقارب الساعة السياسية والنفسية والدبلوماسية إلى ما قبل 1993، حيث يُطب من الفلسطينيين مجددا أن يثبتوا استعدادهم للعيش بسلام مع إسرائيل، من خلال ترديد هذه التعويذة السحرية (مطلب الدولة اليهودية)

كما أنه يتجاهل أن اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل عام 1993 يعتبر، من وجهة نظر فلسطينية وعربية، أعظم تنازل يمكن أن يقدم؛ إذ تخلى الفلسطينيون بموجب ذلك الاتفاق عن مطالبتهم  بما يزيد على ثلثي ما كان  لعهد قريب يعتبر وطنا للفلسطينيين (بمعنى أنهم كانوا يشكلون أغلبية عريضة هناك حتى 1948) وسيتحول مسار المفاوضات بعد اتفاق 1993 إلى التباحث حول الأراضي المحتلة بعد 1967 فقط ويغيب عن طاولة التفاوض أي حديث عن الأراضي التي أصبحت تعرف بإسرائيل بعد 1948.

ومع ضخامة هذا التنازل وخطورته، فإن هذه الاتفاقية شبه المستحيلة لم تعترف بها إسرائيل بشكل كامل، ولا حتى المجتمع الدولي . ثم جاء طلب “يهودية الدولة” ليزيد الطين بلة و يتم تجاهل هذا الاعتراف و اعتباره لم يعد مهما.

وللإنصاف، لو كان عامة الإسرائيليين ومن يناصرونهم أكثر اقتناعا بتصريحات الفلسطينيين وسلوكهم بأن هذا هو الواقع لما تأثروا كثيرا بتركيز نتنياهو بشكل هوسي على هذا الطلب الجديد الذي يخاطب بدهاء حساسيات متجذرة في وجدان الإسرائيليين.

ولكن يبدو أن هذا المطلب يعادل الموازين بشكل سحري، من خلال إنكار _ وإن على المستويين النفسي والثقافي_ الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل.

والحق أن أحد الأطراف، فلسطين، قد اعترف بدولة مستقلة للطرف الآخر، إسرائيل، في الوقت الذي لم تعترف فيه إسرائيل بفلسطين ولا حتى بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.

ويبدو أنه ما زال على الفلسطينيين القيام بجملة من الأمور حتى “يكسبوا” هذا الحق، إن كان في نية إسرائيل أصلا الاعتراف بهذا الحق. ومن ضمن هذه الأمور الاعتراف نوعا ما بإسرائيل كـ”دولة يهودية”.

وفي انتظار أن يمتثل الفلسطينيون لذلك ويعترفوا بـ”يهودية الدولة”، ستظل إسرائيل ومؤيدوها المتشددون يتغاضون عن حقيقة أن الفلسطينيين يعترفون بالفعل بإسرائيل _اعترافا غير متبادل_  منذ عام 1993.

وسيظل هؤلاء بتصرفاتهم وتصريحاتهم يتعاملون مع القضية وكأن ذلك الاعتراف لم يعد وثيق الصلة بالوضع الحالي، وأن الفلسطينيين لم يعترفوا بإسرائيل إطلاقا، ما لم ينصاعوا لهذا المطلب الجديد.

هي إذن حيلة، دبلوماسية ونفسية وسياسية، بارعة وفعالة، يتمثل تأثيرها في تعقيد الجهود الدبلوماسية بشأن حل الدولتين، وجعل التوصل إلى اتفاق سلام هدفا صعب المنال، هذا بالإضافة إلى الحجب والتعتيم على حقيقة أن الفلسطينيين قد اعترفوا بإسرائيل في الوقت الذي لم تعترف إسرائيل إطلاقا بدولة فلسطين.

http://alasr.ws/articles/view/15028