هل نحن أمام “لبننة” سوريا أم “سورنة” لبنان؟

عندما اتّخذ “حزب الله” قراره المصيري بالتدخّل عسكرياً في الحرب الأهلية السورية، كانت مسألة وقت فقط قبل أن تطارده الحرب إلى الداخل وتشعل ناراً في لبنان. فخلال هذا الشهر [شهر آب الماضي] انفجرت ثلاث سيارات مفخّخة في لبنان، ما أدّى إلى مقتل العشرات وإصابة المئات بجروح.

ما إن اندلع النزاع السوري حتى انتشر بسرعة إلى الأجزاء الشمالية من لبنان، وتحديداً طرابلس، التي باتت تضمّ بصورة مستجدّة سنّة لبنانيين سلفيين ومحافظين، إلى جانب العلويين. وقد انجرفت هذه القوى، التي يخوض رفاقها وأبناء طائفتها القتال على جبهتَين متواجهتين في الجهة الأخرى من الحدود، إلى التقاتل في ما بينها في شمال لبنان.
لكن القوى السياسية الأساسية في البلاد قرّرت أن تحاول حصر التأثير الممتدّ للحرب السورية في تلك المنطقة الشمالية. تتّصف السياسة اللبنانية منذ أكثر من عقد بتوازنٍ بين عناصر غير مستقرّة. لا يريد أحد شنّ حرب شاملة في لبنان، لأنه ما من فريق يمكنه أن يكون على ثقة بالفوز، والجميع معرّضون بشدّة للخسارة أكثر منهم للانتصار.
فضلاً عن ذلك، نستنتج من التاريخ اللبناني الحديث أمراً واضحاً لا مفرّ منه: أيّ مجموعة – داخلية أم خارجية – تحاول فرض سيطرة مهيمِنة على البلاد بكاملها تواجه بسرعة معارَضة موحَّدة من جميع القوى الأخرى تقريباً، وتُضطرّ في نهاية المطاف إلى الانكفاء في قواعدها.
لكن “حزب الله”، وعلى الرغم من أنه يعرف جيداً مخاطر تدخّله في سوريا، يعتبر أن بقاء نظام بشار الأسد هو ببساطة ضرورة وجودية. تجسّد سوريا شريان الحياة المباشر بين “حزب الله” وطهران. فلولا ذلك الرابط المجاور، ولولا الدعم من التأثير الخارجي الأقوى في لبنان – أي سوريا – لكان وجود شبه الدويلة التي يقيمها “حزب الله” في شكلها الحالي، مع سياستها الخارجية والعسكرية المستقلة، في خطر شديد.
لن يزول “حزب الله”. فعلى غرار كل الأحزاب السياسية اللبنانية، يتّسم بالازدواجية كما الإله جانوس المعروف بأنه ذو وجهَين. فمن جهة، تمثّل هذه الأحزاب ناخبيها. وفي حالة “حزب الله”، تتألّف قاعدته الناخبة من الطائفة الأكبر في لبنان، أي الشيعة حيث الحزب هو القائد الأول بلا منازع (لا وجود لطائفة أكثرية في لبنان). لكن من جهة أخرى، وأسوةً بجميع الأحزاب اللبنانية، يمثّل “حزب الله” أيضاً قوّة خارجية راعية له، ألا وهي إيران.
انطلاقاً من هذا الولاء للجهة الراعية، “حزب الله” في هو شكل أساسي صنيعة الحرس الثوري الإيراني. وفي حين أمكن التكهّن خلال العقد المنصرم حول ما إذا كان الحزب قد طوّر شخصية سياسية مستقلّة، جاءت الحرب في سوريا لتضع حداً لهذه التساؤلات. فـ”حزب الله” يظلّ مرتبطاً بقوّة برعاته الإيرانيين، والطرفان ملتزمان، وجودياً، ببقاء ديكتاتورية الأسد مهما كان الثمن.
إذاً اتّخذ “حزب الله” خطوة متطرّفة ومتهوّرة وغير مسؤولة على الإطلاق – إنما أيضاً لا غنى عنها على الأرجح من وجهة نظره – عبر إرسال عدد كبير من وحدات النخبة التابعة له للقتال إلى جانب القوات السورية دفاعاً عن بعض المناطق الأكثر أهمّية على المستوى الاستراتيجي.
لقد وصلت تداعيات الحرب السورية، بصورة محتومة، إلى لبنان. فقد أحدثت شللاً في السياسة اللبنانية خلال الأشهر الخمسة الماضية منذ استقالة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وكان السبب الظاهري الخلاف حول تنظيم انتخابات جديدة. لكن الواقع هو أن الانقسام داخل الحكومة يعكس الخلافات السياسية حول الحرب في سوريا، وتدخّل “حزب الله” هناك، والتنافس بين انصار السعودية وانصار إيران في السياسة اللبنانية. لكن مع ذلك، جرى حصر الارتدادات العنيفة في منطقة الشمال في شكل أساسي، نظراً إلى أن إحدى المسائل القليلة جداً التي يُجمع عليها معظم اللبنانيين هي أنه ليس من مصلحتهم اندلاع حرب أهلية جديدة.
مما لا شك فيه أن تنظيم “القاعدة” وسواه من التنظيمات السلفية الجهادية التي تتواجد في الشمال بأعداد صغيرة، لا تحظى بالشعبية في أوساط السنّة اللبنانيين. في الواقع، اسم “القاعدة” في ذاته ملعون جداً في المشرق إلى درجة أن التنظيم اضطُرّ إلى أن يُعيد تقديم نفسه باسم مختلف: “جبهة النصرة” في سوريا وسواها من الأسماء الأخرى التي تندرج في إطار الحيَل التسويقية في لبنان وفي صفوف الفلسطينيين.
تنهار الجهود الهادفة إلى حصر تداعيات الحرب الأهلية السورية في شمال لبنان، بطريقة دموية ودراماتيكية. فتدخُّل “حزب الله” في سوريا سيظلّ يطارده حتى العمق اللبناني، وبصورة متزايدة وأكثر حدّة من دون أدنى شك. لقد راهن الحزب بكل شيء، ويعرف ذلك. ومجدداً تصرّف بتهوّر على حساب ما تبقّى من لبنان، وبطلب من الإيرانيين. حقّق الاحتواء نجاحاً نسبياً حتى تاريخه، فلبنان لا يشبه بشيء الظروف التي تواجهها سوريا. لكن حتّام؟
الضرر كبير حتى الآن. أولاً، الالتزام الذي قطعه الأفرقاء اللبنانيون بعد عام 1989 بعدم استخدام لبنان ساحة لخوض حروب بالوكالة عن الآخرين، كما حصل في الماضي، في صدد الانهيار. ثانياً، بما أن “حزب الله” التزم بقوّة المساهمة في النزاع في سوريا – وبما أن سوريا هي القوّة الخارجية الأهم في لبنان – سيكون لنتائج الحرب السورية تأثير عميق على المعادلة السياسية اللبنانية. يبذل معظم الأفرقاء اللبنانيين محاولات صادقة لتجنّب وباء المذهبية، لكن في ظل الظروف الراهنة، يبدون عاجزين عن وقف انتشاره القوي.
مما لا شك فيه أن الدولة اللبنانية تتصدّع أكثر من أي وقت مضى، على صعيدَي مؤسّساتها وهيكلياتها السياسية، كما على مستوى التوازن الهش بين أفرقائها السياسيين. تدخُّل “حزب الله” في سوريا هو المحفّز الأساسي، لكنه ليس السبب الوحيد. ففيما تفشل الجهود الهادفة إلى ضبط العنف المتمدّد من الحرب السورية وحصره في الشمال اللبناني، تزداد أيضاً احتمالات توسُّع العنف المذهبي في مختلف أنحاء البلاد، وكذلك الاحتمال القاتم إنما المعقول باندلاع جولة جديدة من النزاع الأهلي.
المفارقة هي أن سوريا تتصدّع بطريقة تثير ذكريات مخيفة عن الحرب الأهلية المذهبية اللبنانية من 1975 إلى 1989. فمنذ انتهاء الحرب، ينعم لبنان إلى حد كبير بالسلام، لكنه مفكّك: إنه عبارة عن مجموعة من الجيوب المذهبية والإثنية (مع درجات أعلى أو أقل من الحكم الذاتي) التي تربطها معاً، بصورة فضفاضة، حكومةٌ ضعيفة جداً في بيروت وتعاني من اختلال وظيفي متزايد، حتى إنها باتت أعجز من التظاهر، في جوانب جوهرية كثيرة، بتأدية وظائفها الأساسية التي يُفترَض بالدولة النهوض بها.
ليس لبنان دولة فاشلة، لكنه جمهورية متصدِّعة ومفكّكة تعاني من اختلال وظيفي. منذ عام 1989، وفّرت التسوية درجة مقبولة من الاستقرار، لكنها تستند إلى توازن من العناصر غير المستقرّة. لطالما كانت قابلية هذه التسوية للاستمرار موضع شكوك في أفضل الأحوال، كما أنها تمرّ حالياً في امتحانها الأقوى منذ وضع اتفاق الطائف حداً للحرب الأهلية عام 1989.
يستحيل توقّع النتيجة في المدى الطويل في سوريا: ثمة عدد كبير من المتغيّرات والعوامل التي لا يمكن قياسها بدقّة. لكن الدولة الوطنية المتكاملة والحديثة والمركزية المحكومة من دمشق التي قامت عليها سوريا منذ استقلالها في أربعينات القرن الماضي، لا تملك حظوظاً فعلية بالخروج سليمة معافاة من الحرب الحالية.
قد تعتبر نظرةٌ يمكن وصفها بغير المتشاءمة أن السيناريو الأفضل (أو الأقل سوءاً) بالنسبة إلى سوريا في المدى المتوسط هو النموذج اللبناني: بلد يشكّل نظرياً كلاً متكاملاً، لكنه في الواقع منقسم بشدّة، ويحكمه على المستوى المحلي سماسرة سلطة ذوو انتماءات مذهبية وإثنية، مع درجات أكبر أو أقل من الاستقلال الذاتي في التحرّك، وتربطهم معاً حكومة مركزية ضعيفة جداً في دمشق وعاجزة عن فرض سلطتها في الجزء الأكبر من البلاد التي يمكن اعتبارها وطناً بالاسم فقط.
ولعل المفارقة الأكبر هي أن هذا السيناريو “الأقل سوءاً” في سوريا ربما يعكس ما يعيشه لبنان منذ عقدَين والذي يتعرّض الآن لتهديد شديد بسبب القوى نفسها التي تدفع جارته الشمالية، سوريا، في اتّجاه مشابه تماماً. إذاً السؤال المطروح هو الآتي: هل يستطيع لبنان أن يصمد في وجه “لبننة” سوريا من دون السقوط في جولة مروّعة أخرى من إراقة الدماء؟ هل يمكن أن تصبح سوريا “لبنانَ” آخر من دون تحطيم هذا النموذج الهش في لبنان نفسه؟
لا بد من التشديد على أن هذه الأسئلة تستند بالكامل إلى تفادي مزيد من السيناريوات البائسة. فحدوثها، لحسن الحظ، أقل احتمالاً من سيناريو الشلل اللبناني القاتم إنما المقبول نوعاً ما – وربما الشلل السوري الناشئ – وتوازن القوى غير المستقرّة في دول مجزّأة إنما غير فاشلة. شئنا أم أبينا، ليس هذا التقويم متشائماً. حاولوا أن تتكلّموا مع متشائم حقيقي.